وقد روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه ، قال لبعض أصحابه : يا فلان ، ما لقينا من ظلم قريش إيانا ، وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وقد أخر أنا أولى الناس بالناس ، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه ، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا . ثم تداولتها قريش ، واحدٌ بعد واحد ، حتى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ، ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود ، حتى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به ، وأسلم ، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ، ونهبت عسكره ، وعولجت خلاليل
--------------- صفحة رقم 25 --------------
أمهات أولاده ،
فوادع معاوية وحقن دمه وذماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل . ثم بايع الحسين رضي
الله عنه من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثم غدروا به ، وخرجوا عليه ، وبيعته في
أعناقهم وقتلوه ، ثم لم نزل - أهل البيت - نستذل ونستضام ، ونقمى ونمتهن ، ونحرم
ونقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم
وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ،
فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ،
ليبغضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن رضي الله عنه ،
فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا
والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد ،
إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين رضي الله عنه ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل
قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة ، حتى إن الرجل ليقال له : زنديق أو كافر ، أحب إليه
من أن يقال : شيعة علي ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير - ولعله يكون ورعاً
صدوقاً - يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق
الله تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن
لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع . وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في
كتاب ' الأحداث ' قال : كتب معاوية نسخة واحدةً إلى عماله بعد عام الجماعة : أن
برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ،
وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبراون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ؛ وكان أشد الناس
بلاء حينئذ أهل الكوفة ؛ لكثرة من بها من شيعة علي رضي الله عنه ، فاستعمل عليهم
زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ؛ لأنه كان منهم
أيام علي رضي الله عنه ؛ فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ،
وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق ؛ فلم يبق بها
معروف منهم . وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : ألا يجيزوا لأحدٍ من شيعة علي
وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل
ولايته ؛ والذين يروون فضائله ومناقبه ؛ فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا
لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته . ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا
في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء
والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في
المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية ، فيروي في
عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه . فلبثوا بذلك حيناً . ثم كتب إلى
عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه
--------------- صفحة رقم 26 --------------
وناحية ؛ فإذا
جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا
تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة
؛ فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد إليهم من مناقب
عثمان وفضله . فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة
لا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على
المنابر ، والقي إلى معلمي الكتاتيب ؛ فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير
الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم
وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله . ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان
: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ،
وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ،
فنكلوا به ، واهدفوا داره . فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ؛ ولا سيما
بالكوفة ، حتى إن الرجل من شيعة علي رضي الله عنه ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ،
فيلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان
الغليظة ، ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك
الفقهاء والقضاة والولاة ؛ وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون ،
والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند
ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ؛ حتى انتقلت تلك
الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان ؛ فقبلوها
ورووها ، وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها .
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فازداد البلاء والفتنة ،
فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه ؛ أو طريد في الأرض . ثم تفاقم
الأمر بعد قتل الحسين رضي الله عنه ، وولي عبد الملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ،
وولي عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببعض علي وموالاة
أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في
فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من الغض من علي رضي الله عنه وعيبه ، والطعن فيه
، والشنآن له ، حتى إن إنساناً وقف للحجاج - ويقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن
قريب - فصاح به : أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني علياً ، وإني فقير بائس ، وأنا
إلى صلة الأمير محتاج . فتضاحك له الحجاج ، وقال : للطف ما توسلت به قد وليتك موضع
كذا .
--------------- صفحة رقم 27 --------------
وقد روى ابن عرفة
المعروف بنفطويه - وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم - في تاريخه ما يناسب هذا الخبر
، وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية ،
تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم .
شرح نهج البلاغة ، اسم المؤلف: أبو حامد عز الدين بن هبة الله بن محمد بن
محمد بن أبي الحديد المدائني الوفاة: 655 هـ ، دار النشر : دار الكتب
العلمية - بيروت / لبنان - 1418هـ - 1998م ، الطبعة : الأولى ، تحقيق :
محمد عبد الكريم النمري، ج 11 ، ص 24 الی 27